Forum - پول ديراك وجمال الفيزياء

پول ديراك وجمال الفيزياء

 

     
 

 

پول ديراك وجمال الفيزياء

كان ديراك يفضل النظريات الجميلة على تلك المدعمة بالحقائق

ولكنها غير أنيقة، فالحقائق ـ كما قال ـ تتغير باستمرار.

ولقد أثبت المقولة هذه من خلال تنبؤه بوجود مادة مضادة.

<C.R.هوڤيس>ـ<H.كراف>

 

جرت العادة أن يطلب إلى الفيزيائيين المميزين، حين يزورون جامعة موسكو، أن يكتبوا على لوح أسود توصية للأجيال القادمة. وفي إحدى هذه المناسبات كتب<نيلز بور>جملة تختصر مبدأه القائل بالتتاميةcomplementarity والذي ينص على «أن المتعارضات ليست متناقضات، بل متتامات.» أما <هيديكي يوكاوا> رائد نظرية التفاعلات النووية الشديدة، فقد كتب: «إن الطبيعة بسيطة في جوهرها.» أما <پول ديراك> فقد اختار أن يكتب: «يجب على كل قانون فيزيائي أن يتمتع بجمال رياضياتي.»

 

في عام 1963، كتب ديراك في هذه المجلة: «إن الإله رياضياتي من الدرجة الأولى، وقد استخدم رياضيات متقدمة جدا في بناء هذا الكون» [انظر:"The Evolution of Physicit's Picture of Naturethe,"

Scientific American, May 1963].

 

وبوحي من أفكار <آينشتاين> و <هرمان ڤسايل> أصبح ديراك يهتم، أكثر من أي فيزيائي آخر، «بالجمال الرياضياتي» كسمة أساسية من سمات الطبيعة وكدليل يستهدي به في أبحاثه: «إن النظرية ذات الجمال الرياضياتي أقرب إلى الصحة من نظرية غير أنيقة ولو كانت هذه تنسجم مع بعض النتائج التجريبية».

 

إن هذا الإلحاح من قبل ديراك على الجمال والمنطق في الفيزياء الرياضياتية، إضافة إلى تحفظه الأسطوري وانطوائه على نفسه، قد جعلت منه إنسانا غامضا بين علماء القرن العشرين الكبار [انظر ما هو مؤطر في الصفحتين20 و21]. لكن عقلانيته المفرطة قادته، بعد بداياته اللامعة جدا في سني عمله الأولى، إلى مآزق عصيّة. فقد اكتشف حينما كان، بين الـ 23 والـ 31 من عمره، صياغة مبتكرة وفعالة لميكانيك الكم، وهو نظرية كمومية في إصدار الإشعاع وامتصاصه من قبل الذرات (نسخة أولية ولكنها مهمة، من الإلكتروديناميك الكمومي)؛ كما اكتشف المعادلة الموجية النسبوية للإلكترون وفكرة الجسيمات المضادة ونظرية وحيدات القطب المغنطيسي. ومع ذلك فإن القليل من أبحاثه اللاحقة كان ذا قيمة دائمة ولم يكن لأي منها الصفة الثورية التي كانت لاكتشافاته الأولى.

 

ولد ديراك عام 1902 في بريستول بإنكلترا، وكان الأوسط من بين ثلاثة أولاد في عائلة يمكن أن تُنعت اليوم بأنها استبدادية. كان والده قد هاجر من سويسرا إلى إنكلترا عام 1890، وهناك تزوج ابنة قبطان بحري. كان والده يعلِّم لغته الأم، الفرنسية، في معهد مرموق في بريستول حيث كان يمارس سلطة حديدية. وكان يوجه أولاده بالصرامة نفسها: لم يكن مسموحا لهم بالتعبير عن عواطفهم؛ أما الحب الأبوي فكان معناه الطاعة. كان يحيط أولاده بسور من الاستبداد يعزلهم عن كل حياة اجتماعية وثقافية. ولما كان ديراك لم يستطع، أو لم يرغب، أن يثور على هذا الوضع فقد لجأ إلى أمان السكوت ونأى بنفسه عن أبيه. وقد تركت هذه السنون التعيسة بَصْمتها على حياة ديراك كلها. وعندما توفي والده، عام 1936، لم يحزن ديراك لوفاته وكتب إلى التي أصبحت زوجته يقول: «أشعر الآن أنني حر أكثر بكثير.»

 

ولحسن الحظ كان لدى ديراك عالَم داخلي غني يلجأ إليه. فقد ظهرت عليه علائم النبوغ في الرياضيات في وقت مبكر؛ وقد انتسب إلى المدرسة التي كان يعمل فيها والده وهو ابن 12 عاما. كانت هذه المدرسة، بخلاف معظم سواها من المدارس حينذاك، لا تقدم تعليما تقليديا للغة اللاتينية واللغة اليونانية، بل كانت تهتم بتعليم العلوم واللغات الحية والفنون التطبيقية. كانت هذه البرامج تلائم ديراك جيدا لأنه، كما يقول: «كان لا يستسيغ قيمة الثقافات القديمة.» وبعد أن أتم برنامج هذه المدرسة الثانوية انتسب إلى معهد الهندسة في جامعة بريستول، حيث راح يؤهل نفسه ليصبح مهندسا كهربائيا، لا حبا بهذه المهنة بل ظنا منه أن ذلك قد يرضي أباه.

 

كان هذا التأهيل الهندسي لا يهتم بالموضوعات التي تخرج عن نطاق تطبيقات الفيزياء والرياضيات. وعلى الرغم من ذلك أصبح ديراك مفتونا، ثم مشبعا بنظريات آينشتاين الجديدة بخصوص المكان والزمان والثقالة ـ أي بنظريتَي النسبية: الخاصة والعامة.

 

وعندما نال ديراك شهادته الجامعية بدرجة الشرف الأولى عام 1921، كان يخشى ألا يجد عملا بسبب الأزمة الاقتصادية التي تلت الحرب العالمية الأولى، لكنه أُسعف بمنحة لدراسة الرياضيات في بريستول، وفي نهاية عام1923 بدأ دراسته العليا للرياضيات التطبيقية والفيزياء النظرية في جامعة كامبردج.

 

كانت كامبردج في ذلك الوقت موطن علماء مشهورين من أمثال<جوزيف لارمور> و <جوزيف ثمسون> و <إرنست رذرفورد> و <آرثرستانلي إدينگتون> و <جيمس جينز>، ورجال علم صاعدين من أمثال <جيمس تشادويك> و <پاتريك بلاكيت> و <رالف فاولر> و <إدوارد ميلن> و <دوگلاس هارتري> و <پيتر كابتزا>. وقد تعلم ديراك من فاولر، الذي كان يشرف على أعماله، النظرية الذرية والميكانيك الإحصائي، وهما نظريتان لم يكن ديراك قد درسهما من قبل. وعن هذه السنوات قال فيما بعد: «لقد كرست نفسي كليا لهذا العمل العلمي، واستمررت فيه يوما بعد يوم، باستثناء يوم الأحد الذي خصصته للراحة أو للنزهة وحيدا ولمدة طويلة في الريف عندما يكون الجو جميلا.»

 

وبعد ستة أشهر من وصوله إلى الجامعة نشر ديراك أول أبحاثه العلمية، وفي السنتين التاليتين أتبعه بعشر نشرات. وعندما قدم أطروحته لنيل الدكتوراه، في الشهر 5/1926، كان قد اكتشف صياغة مبتكرة لميكانيك الكم وراح يلقي دروسا في أول مقرر أنشئ لهذا العلم في جامعة بريطانية. وبعد عشر سنوات فقط من دخوله جامعة كامبردج نال جائزة نوبل في الفيزياء على «اكتشاف أشكال جديدة خصبة لنظرية الذرات.. ولتطبيقاتها.»

 

إن السنوات الثماني العظيمة من حياة ديراك بدأت ذات يوم من الشهر8/1925، عندما تسلّم من فاولر نسخا من مقالة كان<ڤرنرهايزنبرگ>، الفيزيائي الألماني الشاب، ينوي نشرها [انظر: «هايزنبرگ والارتياب والثورة الكمومية»،مجلة العلوم، العدد 7 (1992) صفحة 45]. كانت هذه المقالة تحوي الأسس الرياضياتية لنظرية ثورية في الظواهر الذرية سرعان ما عُرِفت باسم ميكانيك الكم. وعندئذ أدرك ديراك فورا أن أعمال هايزنبرگ تتيح تناولا جديدا كل الجدة لعالَم الذرات. وفي غضون السنة التالية أعاد ديراك صياغة آراء هايزنبرگ الأساسية وقدم نظرية مبتكرة في ميكانيك الكم أصبحت تعرف باسم جبر الأعداد q، وذلك وفقا للتعبير الذي استخدمه ديراك للدلالة على المقادير الفيزيائية «القابلة للرصد» observables، كالموقع أو الاندفاع أو الطاقة.

 

لقد حظيت أعمال ديراك بشهرة سريعة واسعة على الرغم من أن عددا من نتائجه قد حصل عليها في الوقت نفسه فريق قوي من النظريين الألمان، منهم <هايزنبرگ> و <ماكس بورن> و <وولفگانگ پاولي> و <پاسكوال جوردان>، ممن كان ديراك ينافسهم بشكل علني.

 

كان بورن وهايزنبرگ وجوردان يضعون أفكار هايزنبرگ الأولى بشكل مصفوفات. ثم، وفي ربيع عام 1926، وضع الفيزيائي النمساوي <إرڤين شرودنگر> نظرية كمومية أخرى، هي الميكانيك الموجي، قادت إلى النتائج نفسها، التي انبثقت عن النظريات الأكثر تجريدا المنسوبة إلى ديراك وهايزنبرگ، لكن الحسابات في النظرية الجديدة هذه كانت أبسط. وقد شعر العديد من الفيزيائيين بأن هذه النظريات الثلاث ليست سوى تمثيلاتrepresentations خاصة من نظرية في ميكانيكٍ أوسع شمولا.

 

وما لبث ديراك أن اكتشف هذه النظرية العامة أثناء الأشهر الستة التي قضاها في مؤسسة الفيزياء النظرية في كوبنهاغن، تلك النظرية التي كان يتوقعها الكثير من الباحثين ـ وهي إطار عام ينطوي على جميع الصيغ الخاصة ويعطي القواعد التي ترسم كيفية المرور من صيغة لأخرى. وهكذا أصبحت التطويرات اللاحقة في ميكانيك الكم تعتمد على «نظرية التحويل» transformation theory التي ابتدعها ديراك وعلى نظرية مماثلة أخرى ابتدعها جوردان في الوقت نفسه تقريبا.

 

كان، كما كتب عنه الفيزيائي والبيولوجي الألماني<والتر إلساسر>«طويلا ونحيلا وقليل الرشاقة والكلام. لقد نجح في تكريس كل مواهبه لمهمة واحدة مسيطرة. كان رجلا واسع الأفق في مجال عمله، ولكنه كان قليل الاهتمام والمعرفة بالنشاطات البشرية الأخرى.. وبتعبير آخر، كان مثالا للفكر الرياضياتي العالي. وفي حين كان يجتمع لدى سواه كثير من الاهتمامات، كان كل شيء لدى ديراك منصبا على إنجاز مهمته التاريخية العظيمة، ألا وهي توطيد علم جديد، علم ميكانيك الكم، ربما كان ديراك أكثر الجميع إسهاما فيه.»

 

وفي26/12/1927 كتب الفيزيائي الإنكليزي <تشارلس داروين> (حفيد عالم الطبيعة المشهور) إلى بور يقول: «كنت في كامبردج منذ بضعة أيام ورأيت ديراك. لقد حصل الآن على منظومة جديدة كاملة من المعادلات تأخذ بعين الاعتبار سبين spin الإلكترون في كل الأحوال ويبدو أنها «الضالة المنشودة»، وهي معادلات تفاضلية من المرتبة الأولى، لا الثانية».

 

كانت معادلة ديراك بالفعل «الضالة المنشودة» لأنها كانت تنسجم، دفعة واحدة، مع متطلبات نظرية النسبية الخاصة ومع النتائج التجريبية بخصوص سبين الإلكترون، هذا السبين الذي يمكن أن يأخذ إحدى القيمتين،+1/2 و -1/2، على حد سواء. وكانت معادلة شرودنگر الأصلية قد فشلت في هذا المضمار لأنها لم تكن نسبوية ولأن تعميمها النسبوي، أي معادلة كلاين ـ گوردون، لم يستطع أن يأخذ السبين في الحسبان.

 

كان استخدام المشتقات الأولى حصرا، الذي أدهش داروين، حاسما لسببين. أولهما أن ديراك أراد أن يحتفظ بالشكل البنيوي لمعادلة شرودنگر التي كانت تحوي المشتق الأول بالنسبة للزمن. والآخر أن ديراك كان يريد أن يستجيب لمستلزمات النسبية التي تضع المكان والزمان على قدم المساواة. كان التوفيق بين هذين المطلبين، على صعوبته، جميلا ومفيدا في وقت واحد: فعندما طبّق معادلته الجديدة على إلكترون متحرك في حقل كهرطيسي عثر ديراك على قيمة سبين الإلكترون بشكل آلي.

 

لقد أُعجب الفيزيائيون باستنتاج خاصية فيزيائية من مبادئ أولى أساسية، فنعتوا المعادلة بأنها «معجزة وأعجوبة مطلقة» وراحوا يضطلعون بتحليل دقائقها. وكان أن قاد هذا الطريق الجديد إلى ولادة التحليل السبيني spinor analysis ـ وهو أداة رياضياتية فعالة في تحليل مسائل تنتمي إلى مجالات الفيزياء جميعها تقريبا ـ وإلى تطوير المعادلات الموجية النسبوية بما يناسب الجسيمات التي يختلف سبينها عن النصف. وقد حققت هذه المعادلة نجاحا آخر عندما طبقها ديراك وآخرون على ذرة الهيدروجين حيث استطاعوا أن يعثروا على خطوطها الطيفية في أمكنتها بالضبط. وبعد أقل من سنة من نشرها أصبحت معادلة ديراك على ما هي عليه اليوم: أحد أسس الفيزياء الحديثة.

 

كان ديراك يبجّل المنطق الرياضياتي، وكان في الوقت نفسه ذا حدس قوي. ولم تكن هاتان الصفتان الفكريتان، المتناقضتان ظاهريا، تتجليان بأبرز مما تجلتا في تطوير نظريته في «الثقوب» بين عامي 1929 و1931، هذه النظرية التي أضاءت عالما بكامله كان من قبل خفيا عن عيون الفيزيائيين.

 

لقد انبثقت هذه النظرية عن إدراكه بأن معادلته لا تنطبق على الإلكترونات ذات الطاقة الموجبة فحسب، بل وعلى الإلكترونات ذات الطاقة السالبة أيضا. أي إن أمثال هذه الجسيمات لا بد أن تبدي صفات خاصة جدا. زد على ذلك أن الجسيمات ذات الطاقة الموجبة من شأنها أن تسقط في تلك الحالات ذات الطاقة السالبة، متسببة في انهيار العالم المحيط بنا.

 

وفي أواخر عام 1929 وجد ديراك طريقة لحل اللغز الناشئ عن ضرورة وجود إلكترونات ذات طاقة سالبة في الطبيعة، فتصورَ أن الخلاء «بحر» قوامه حالات سالبة الطاقة «مليئة» كلها بالإلكترونات. وبموجب مبدأ پاولي في الانتفاء exclusion، هذا المبدأ الذي ينفي وجود إلكترونين اثنين في حالة كمومية واحدة، يكون من شأن الإلكترونات ذات الطاقة السالبة أن تظل فوق هذا البحر الخفي فتشكل الحالات «المثارة» الملحوظة في الطبيعة. وفي وسع الحالة المثارة أن تنشأ عن حقن طاقة موجبة في هذا البحر كافية لنزع إلكترون منه، فيصبح من شأن ذلك أن يتولد «ثقب» يمكن أن يسقط فيه إلكترون آخر ذو طاقة سالبة. وقد كتب ديراك بهذا الصدد يقول: «إن هذه الثقوب ستكون أشياء ذات طاقة موجبة وسوف تشبه، من هذه الناحية، الجسيمات العادية.»

 

ولكن ما هو الجسيم الذي يجسِّد هذا الثقب؟ كان يوجد وقتذاك جسيمان مرشحان لهذه الوظيفة فكَّر فيهما ديراك: البروتون والإلكترون السالب. أما البروتون فقد تبين فورا لديراك أنه ينطوي على صعوبتين مهمتين. أولاهما أن المتوقَّع من الإلكترون، إذا سقط في أحد الثقوب، أن يتفانى مع الجسيم الآخر الذي يجسد هذا الثقب وأن ينشأ عن تفانيهما برق ضوئي خاطف (أشعة غاماوية) gamma rays. لكن شيئًا من قبيل تفاني الإلكترون مع البروتون لم يُلحظ قط. أما الصعوبة الأخرى فهي ما اتضح من أن المرشح الملائم المطلوب يجب أن يماثل الإلكترون في كل شيء باستثناء الشحنة الكهربائية ـ إضافة إلى أن كتلة البروتون تساوي قرابة 2000 مرة من كتلة الإلكترون.

 

كان ديراك ميالا في بادئ الأمر، بدافع من رغبته في البساطة، إلى تفضيل البروتون كمجسد للثقب. لأن الإلكترون والبروتون كانا، في عام 1930، الجسيمين الأساسيين الوحيدين المعروفين. ولم يكن راغبا في إدخال كائن جديد لم يلحظه أحد قط. زد على ذلك أن عدد الجسيمات الأساسية سيؤول إلى جسيم واحد، هو الإلكترون، إذا أمكن اعتبار البروتون حالة ذات طاقة سالبة يُخلِّفها الإلكترون. كانت مثل هذه البساطة ستحقق، حسب قوله، «حلم الفلاسفة.»

 

لكن الاعتراضات التي سيقت ضد تفسيره الأولي للثقوب سرعان ما اشتدت وتكاثرت لدرجة أن استقر رأيه، في الشهر 5/1931 ـ وعلى كره منه ـ على المرشح الثاني: الإلكترون المضاد، «وهو نوع جديد من الجسيمات لا يعرفه التجريبيون، كتلته تساوي كتلة الإلكترون وشحنته تخالف بالإشارة شحنة الإلكترون.» وقد دعاه هذا التناظر، بين الشحنة الموجبة والشحنة السالبة، في نظريته إلى القبول بالبروتون المضاد في مملكة الموجودات النظرية. وبذلك عمد ديراك إلى مضاعفة عدد الجسيمات الأساسية (الأولية)، وفسح مجالا للتكهنات بوجود عالم كامل مصنوع كله من المادة المضادة. كما أنه افترض وجود جسيم آخر، هو وحيد القطب المغنطيسي، الذي لا بد أن يكون ذا شحنة مغنطيسية من نوع واحد، وذلك تشبها بشحنة الإلكترون أو شحنة البروتون الكهربائية. لكن لا يوجد اليوم أي برهان تجريبي موثوق على وجود وحيدات قطب مغنطيسي [انظر: "Superheavy Magnetic Manopoles,"

by R. A. Carrigan, Jr. - W.P. Trower;

Scientific American, April 1982].

 

سجل بأمور جديرة بالذكر

في عام 1931 كتب أحد المحاضرين في جامعة كامبردج، إلى أهله يقول: «كان قريب الشبه بالفكرة التي لدينا عن غاندي. لقد دعوناه إلى العشاء.. كان عشاء لطيفا متواضعا لكنني متأكد من أن الأمر سيان لديه لو كنا قدمنا له حساء فقط. إنه يذهب إلى كوبنهاغن بالباخرة عبر بحر الشمال لأنه يعتقد أن عليه أن يشفى من دوار البحر. إنه لا يسعه أن يقول إلا ما يعتقد به حقا. ولو أنه خُلق في عصر غاليليو لأصبح شهيدا سعيدا جدا.»

كان ديراك يتغدى ذات يوم بصحبة ڤگنر و<M.پولانيي>، فجرت مناقشة حامية حول العلم والمجتمع لم يتفوه خلالها ديراك بكلمة واحدة. ولما طُلب إليه أن يتكلم ويعطي رأيه أجاب: «يوجد دوما أناس يحبون الكلام أكثر ممن يحبون الإصغاء.»
وفي مناسبة أخرى كان ديراك يستضيف فيزيائيا فرنسيا يتكلم الإنكليزية بصعوبة وكان ديراك يصغي إليه وهو يفتش عن الكلمات الإنكليزية ليعبر عن رأيه. وكان أن دخلت الغرفة أخت ديراك وسألت أخاها شيئا باللغة الفرنسية، فأجابها ديراك بالفرنسية بطلاقة، مما أثار بالطبع حنق الضيف فانفجر قائلا: «لماذا لم تخبرني بأنك تتكلم الفرنسية.» فأجابه ديراك بأدب: «إنك لم تسألني قط.»

<إرڤين شرودنگر>

وعندما مر ديراك بمدينة بيركلي وهو في طريقه إلى اليابان عام 1934 قابله <روبرت أوبنهايمر> وقدم له كتابين ليقرأهما في سفره. فرفض ديراك بأدب قائلا بأن قراءة الكتب تشوش التفكير. وقد أهداه الفيزيائي الروسي پيتر كابتزا ذات مرة ترجمة إنكليزية لرواية <دستويفسكي>: الجريمة والعقاب. وبعد مدة سأله كابتزا عما إذا كان قد استمتع بقراءة الكتاب، فلم يسمع منه سوى التعليق التالي: «إنه جيد، لكن الكاتب أخطأ في أحد الفصول حين تكلم عن شروق الشمس مرتين في يوم واحد.» وقد قرأ أيضا، بناء على توصية من أحد زملائه، <رواية تولستوي>: «الحرب والسلم»، فاستغرق ذلك منه سنتين.

<J روبرت أوبنهايمر>

كان ديراك يتهرب من الدعاية. وقد خطر له في بادئ الأمر أن يرفض جائزة نوبل. كما أنه هرب إلى حديقة الحيوانات يوم تنصيبه أستاذا في كامبردج، كي يتحاشى التهاني. كان يرفض كل أوسمة الشرف ـ ومع ذلك فقد مُنح كثيرا منها غيابيا ودون موافقة منه على ما يبدو.
وفي نحو عام 1950 عُيِّن ديراك مشرفا على أطروحة<دونيس شياما>في كامبردج، الذي دخل عليه ذات يوم يقول بحماس: «أستاذ ديراك، لقد فكرت منذ برهة بطريقة لربط تشكُّل النجوم بمسائل كونية، فهل لي أن أخبرك بها؟» فأجاب ديراك: «لا.» وانتهى الحديث. ويبدو أن ديراك لم يكن يدرك أن إيجازه وصراحته يمكن أن تُفهما ضربا من الوقاحة أو الفظاظة.

<پيتر كابتزا>

كان ديراك في دروسه يجهد في عرض النصوص بأقصى الوضوح وبشكل مباشر. وكان يرى من غير المنطقي أن يغير جمله المختارة بعناية إذا كان السبب الوحيد أن السامع لم يفهمها، وقد حدث أكثر من مرة أن طلب إليه أحد الحاضرين أن يعيد التعبير عن فكرة لم يفهمها، قاصدا بذلك أن يسمع منه شرحا أطول، لكن ديراك كرر ما قاله من دون أن يغير كلمة واحدة.
لقد كتب ديراك عام 1977 قائلا: «أعتقد أن شرودنگر كان أكثر الفيزيائيين الذين قابلتهم قربا مني. كنت أجد نفسي متفقا معه بأسرع مما أتفق مع أي شخص آخر. وأظن أن سبب ذلك يعود إلى أننا كنا، كلانا، نستسيغ جدا جمال الرياضيات.. كان ذلك ضربا من الإيمان الراسخ لدينا بأن كل المعادلات التي تعبر عن القوانين الأساسية للطبيعة يجب أن تنطوي في جوهرها على جمال رياضياتي كبير.»

<أوجين ڤگنر>

 

وفي الشهر9/1932، انتخب ديراك ليحتل كرسي الرياضيات، الذي كان يحتله نيوتن في جامعة كامبردج لمدة ثلاثين عاما، واحتفظ به 37 عاما (يحتله الآن ستيفن هوكنگ). وفي ذلك الشهر عرض فيزيائي شاب اسمه<كارل أندرسون>من معهد كاليفورنيا التقاني (CIT)، في بحث نشر في مجلة ساينس Science، ما بدا له ـ في الأشعة الكونية ـ «إلكترونا موجب الشحنة وذا كتلة تضاهي كتلة الإلكترون،» وعلى الرغم من أن هذا الاكتشاف لم يكن مستوحى من نظرية ديراك، فقد صار هذا الجسيم الذي سُمّي «بوزترونا» يعتبر عموما إلكترون ديراك المضاد. وعندما تسلم ديراك جائزة نوبل في ستوكهولم، في الشهر 12/1933، كان عنوان محاضرة ذلك الفيزيائي الشاب حيث كان عمره 31 عاما: «نظرية الإلكترونات والبوزترونات.» وبعد ثلاث سنوات نال أندرسون، وكان عمره 31عاما أيضا، جائزة نوبل على انتزاعه جسيم ديراك من مملكة المفترضات.

 

إن النظرية الكمومية التي تُعنى بالحقل الكهرطيسي تسمى اليوم الإلكتروديناميك الكمومي. وفي أواسط الثلاثينات بلغت قضية صياغة نظرية كمومية نسبوية مقبولة مرحلة الأزمة، فاستنتج عدد من الفيزيائيين أن من الضروري إجراء تغيير حاسم في أسس الفيزياء. كان ديراك من المساهمين الرئيسيين في الإلكتروديناميك الكمومي في أواخر العشرينات، وكان مشمئزا من العيوب التي كانت تشوب الإطار النظري القائم لذي كان مبنيا على نظرية طرحها هايزنبرگ وپاولي عام 1929 ونعتها ديراك بأنها «بشعة» وغير منطقية. زد على ذلك أن الحسابات التي تستخدم هذه النظرية قادت إلى تكاملات متباعدة ـ لانهائيات ـ لم يستطع أحد أن يجد لها معنى فيزيائيا. وفي عام1936 وضع ديراك نظرية بديلة لم تكن الطاقة فيها منحفظة conserved. وعلى الرغم من أن هذا الاقتراح الجذري واجه تعارضا سريعا مع التجارب، استمر ديراك في انتقاد نظرية هايزنبرگ وپاولي وفي البحث ـ بعناد تقريبا ـ عن نظرية أفضل. وقد كتب عام 1979